فصل: روايات المؤلف عن محمد الحاج الدلائي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحاضرات ***


رؤيا والد المؤلف ودعوة أستاذه

ولما كان القصد في هذا الموضوع إلى ذكر المحاضرات بنوادر الفوائد مما اتفق لي خصوصًا أو لغيري عمومًا وجب أن ينخرط في سلك ذلك ما وقع في شأني حال الولادة لأنه أول الرحلة إلى هذه الدار مع ما انضاف إليه مما يكون له مصداقًا أو يرجى خيره ويذكر على وجه التبرك والتفاؤل أو التحدث بالنعم، وفيه مسرة المحب ومساءة البغيض فأقول‏:‏ إني أرجو أن أكون إن شاء الله تعالى رؤيا والدي ودعوة أستاذي؛ أما رؤيا الوالد فاعلم أن أبي مع كونه رجلًا أميًا كان رجلًا متدينًا مخالطًا لأهل الخير محبًا للصالحين زَوّارًا لهم، وكان أُعْطِيَ الرؤيا الصادقة وأعطي عبارتَها، فيرى الرؤيا ويعبرها لنفسه، فتجيء كَفَلَقِ الصبح، وكان مما رأى وتواتر الحديث به عنه في العشيرة رحمه الله أن قال‏:‏ رأيت عينيْ ماء إحداهما لي، والآخر لعلي بن عثمان، وهو والد ابن عمنا الأديب البارع أبي سعيد عثمان بن علي رحمه الله، غير أن عين علي كنا نسقي بها في بلدنا وعيني خرجت إلى ناحية أخرى‏.‏

وزعموا أنه قال‏:‏ وكانت العين التي هي لي أقوى ماء وأكثر فيضًا ثم فسر ذلك بمولودين ينتفع بهما‏.‏

***

فولد أبو سعيد المذكور فانتفع ونفع حتى مات رحمه الله، وظهر أنه العين المذكورة لأبيه، وولدت أنا أيضًا، وقد كان لي أخوان أسن مني فماتا أميين رحمهما الله، فأرجو أن أكون تلك العين، وقد اتفق خروجي عن البلد كما قال رحمه الله، وكنت بعد ذلك حين ارتحلت في طلب العلم إلى ناحية السوس الأقصى غيبت عن الوالد رحمه الله أعوامًا لا يدري أين أنا‏؟‏ فلما قفلت حدثني رحمه الله فقال‏:‏ لما ضقنا من غيبتك رأيت كأن الناس يتجارون خلف فرس أشقر ليقبضوه، فجئت إليه أنا فأمسكته بلجامه، فلما استيقظت قلت للناس‏:‏ إن الحسن ابني سيأتي وأجتمع به فكان ذلك، والفرس الأشهب عند المعبرين اشتهار بشرف وذكر، وقد حصل لي ذلك بحمد الله، نسأل الله سبحانه أن يكمل ذلك لنا وله ولسائر الأحباب بالفوز يوم الحشر والرضوان الأكبر، بجاه نبيّه المصطفى المبعوث إلى الأسود والأحمر، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه المجلين في كل مفخر‏.‏

وأما دعوة أستاذي، وهو شيخ الإسلام، وعلم الأعلام، أبو عبد الله سيدي محمد بن ناصر، رحمه الله تعالى ورضي عنه، فهي تلك بعينها، وكان من حديثي معه في ذلك أنه لما تهيأ للتشريق في حجته الثانية أرسل إلي في حاجة أقضيها له مما يتعلق بسفره ذلك، وأنا إذ ذاك بالزاوية البكرية، فقضيت ذلك بحمد الله وسافرت به إليه حتى بلغته، فلقيني بترحيب، ورأيت منه بحمد الله إقبالًا خارجًا عن المعتاد حتى إنه متى ذكرت ذلك إلى اليوم يغشاني خجل وإشفاق على نفسي، وأقمت معه حتى شيعته لوجهته إلى أن جاوزنا سجلماسة بمرحلة، فرجعت إلى داري، ولما كنت ببعض الطريق ألهمت الدعاء له فاتخذت الدعاء له بعد أوراد الصبح وردا، فلما قفل من الحج ذهبنا إليه لنسلم عليه، فخلوت به يومًا وجعلت أطلب منه وأطلب، فقال لي رحمه الله‏:‏ أما الدعاء فإني في سفرتي هذه ما دخلت مقامًا ولا مزارة، ولا توجهت إلى الدعاء لأحد إلاّ جاء بك الله تعالى في لساني أولًا، ثم لا أدعو لك إلاّ بهذا الدعاء‏:‏ اللهم اجعله عينًا يستقي منها أهل المشرق وأهل المغرب، قال‏:‏ حتى كنت أتعجب في نفسي وأقول‏:‏ سبحان الله‏!‏ بماذا استحق هذا الرجل هذا‏؟‏ ولمل صنفت القصيدة الدالية في مدحه وتهنئته بالحج أدخلها إليه ولده الفقيه الناسك الفاضل أبو محمد عبد الله بن محمد فخرج إلي وقال‏:‏ يقول لك الشيخ‏:‏ جعلك الله عينًا يستقي منها أهل المشرق وأهل المغرب، وشمسًا يستضيء بها أهل المشرق وأهل المغرب، وهذا اللفظ يحتمل الدعاء والخير، نسأل الله تعالى أن يحقق لنا نحن وللمسلمين ذلك آمين‏.‏

ومن هذا ما كلمه جماعة من فقراء العرب وأنا حاضر معهم فقال لهم يشير إليّ هذا شمسكم، هذا ضوءكم، وهذا كله أصرح مما حكى تاج الدين بن عطاء الله عن شيخه القطب العارف أبي العباس المرسي رضي الله عنهما قال‏:‏ جاء الشيخ مرة من سفر، فلقيناه فدعا لي وقال‏:‏ فعل الله لك وفعل، وبهاك بين خلقه قال‏:‏ ففهمت يعني من قوله وبهاك بين خلقه أني مراد بالظهور إلى الخلق‏.‏

وأعلم أن مواطأة دعوة الشيخ رضي الله عنه لرؤيا الوالد، مع كونه لم يحضر لذلك ولم ينقل إليه، من عجيب الاتفاق‏.‏ قد ذكرت هنا ما وقع في الحديث عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا له‏:‏ يا رسول الله عليه أخبرنا عنك فقال لهم‏:‏ «أنا دعوة أبي إبراهيم عليه السلام، ورؤيا أمي»‏.‏

تنبه أيها الناظر، فإياك أن يختلج بفهمك، أو يخطر بوهمك، أني أنزع بهذه الحكاية قصدًا إلى المحاكاة، معاذ الله، فإن درجات الأنبياء لا تنبغي لغيرهم، ولا يصل أحد إلى مزاحمتها، فكيف بسيد الأنبياء‏؟‏ صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين وعلى آله وعلى آل كل ثم إياك أيضًا أن تتوهم أن لا نسبة ولا نسب ولا شبهة ولا شبه فتقع في الغلو من الطرف الآخر، وقد قال صلى الله عليه وسلم «خَيْرُ الأمُورِ أوْسَطُهَا» ولا بد لهذا من تقرير فنقول‏:‏

إن الله جل اسمه، وهو الذي لا مثل له ولا نظير، ولا شبه ولا وزير، قد شرع لعباده التعلق بأسمائه الحسنى، ثم شرع لهم أيضًا التخلق بها في الجملة حتى إذا علمنا مثلًا أن الله تعالى حليم انتهض العبد في التحلي بالحلم فيكون حليمًا، كذا إذا علمنا أنه تعالى عليم أو وهاب أو صبور أو شكور انتهض العبد في الاتصاف بالعلم وبالجود وهكذا حتى يكون عليمًا وهابًا ومعلوم أن حلم العبد ليس كحلم الله وهكذا، ولكن له به نسبة هي توجب قرب العبد من الله تعالى في المعنى ومن هذا حديث‏:‏ «خَلَقَ اللهُ آدَمَ عَلىّ صُورَتِهِ» أي خلقه حيًّا عالمًا قديرًا، وليس كالجمادات والحيوانات العجماوات، وبهذا تأهل لأن يكون عبد الحضرة دونها‏.‏

ثم إن العباد المختارين يرضون لرضى الله، ويغضبون لغضبه، ويشتدون لأجله، ويلينون لأجله، وهكذا في سائر الأحوال و الأفعال، قال تعالى في أصحابه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم‏:‏ ‏{‏أشدّاءُ عّلى الكُفّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ‏}‏ وقال أيضًا‏:‏ ‏{‏أذِلّةٍ عَلى المُؤمِنِينَ أعِزَّةٍ عَلىَ الكَافِرِينَ‏}‏ وهو مسايرة ومشايعة في الأفعال والأحوال، وذلك شأن عبيد الملك، وإذا كان هذا في حق الله تعالى ففي حق الأنبياء أقرب وأيسر، فلا إشكال في صحة تعاطي أوصافهم وأخلاقهم وأفعالهم وسائر أحوالهم وإن لم تكن في ذلك مشابهة ولا مزاحمة للنبوءة، بل اتباع واقتباس وشبه توجب لصاحبها أيضًا القرب منهم، ولهذا قيل في الوارث‏:‏ إنه من كان على قدم النبي صلى الله عليه وسلم أي متحققًا في الاقتداء به قولًا وفعلًا وحالًا، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الرُّؤْيّا الصالِحَةُ مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَةٍ وترجمة ابن الجوزي أرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوءةِ» فقد علم من لفظ الحديث أن الرؤيا الواقعة من غير النبي لعموم لفظ الصالح قد أخذت بنسبة من النبوءة، فهي منها غير أنه لقلة النسبة لا تقع بها مزاحمة، وقال الشيخ أبو يزيد رضي الله عنه‏:‏ مثل ما أعطي الأنبياء مثل زق مملوء ماء أو عسلًا، ومثال ما أعطي الأولياء كلهم مثال قطرات تقطر من ذلك الزق، فانظر في هذا المثال فإن القطرات هي من ماهية ما في الزق قطعًا، ولكنها لقلتها جدًّا لا تقع بها مزاحمة، ولم يزل أهل الدين من العلماء العاملين والمجاهدين السالكين والواصلين العارفين يأخذون أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم من أحوال الأنبياء عمومًا وحال نبينا صلى الله عليه وسلم خصوصًا، وهذا هو الشأن كله‏.‏

وقد يقع لهم مما هو في معنى الاقتباس والإشارة والتمثيل ما يزيد على هذا كما قال الشيخ أبو مدين رضي الله عنه لأبي عمران موسى ابن يدراسن الحلاّج حين توجه إليه‏:‏ ‏[‏فإن أمن العرب‏]‏ فأنت موسى وأنا شعيب، وإن موسى لما بلغ شعيبًا أمن‏.‏

ومن هذا ما وقع له رضي الله عنه في القرآن وقد دخل عليه رجل من أهل الإنكار والمصحف بين يديه فقال للرجل‏:‏ ارفع المصحف وافتحه وانظر إلى أول ورقة منه فإذا فيها‏:‏ ‏{‏الّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الخَاسِرِينَ‏}‏‏.‏

ومن هذا النمط كان رضي الله عنه يقول‏:‏ لا يكون المريد مريدًا حتى يجد في القرآن كل ما يريد‏.‏

وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه في شأن ابن عطاء الله الفقيه جد الشيخ تاج الدين‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم يوم ثقيف جاءه ملك الجبال فقال له‏:‏ ما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين‏؟‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئًا، قال فكذلك صبرنا لجد هذا الفقيه لأجل هذا الفقيه يعني تاج الدين إلى غير هذا مما يكثر‏.‏

فما وقع من الحكاية بعد أن يكون قصد به اقتباس وضرب من المناسبة يكون كل شيء مما مرّ، وإلاّ فهو استطراد للعلم وتذكير بفائدة، وقد يقال على أنه مما مرّ، فأين منزلتك أي هذا المتشبع بما لم يعط من درجات الشيخين المذكورين ونحوهما حتى يصح منك ما صح منهم‏؟‏ فنقول‏:‏ إذا انفصلنا من جانب النبوءة بخير فقد خرجنا عن مضيق الممتنع إلى فضاء لجائز، وهو رحب، ومن تشبّه بقوم فهو منهم كما قيل‏:‏

لم أكن للوصال أهلًا ولكن *** أنتمُ بالوصال أطعمتموني

لله الأمر من قبل ومن بعد‏.‏

تقلبات الدهر

كان الشيخ الصالح أبو محمد الحسين بن أبي بكر رحمه الله ينشدنا كثيرًا تحريضًا على جميل الصبر، وتعريفًا بتقلبات الدهر، ونحن إذ ذاك صبيان قول الشاعر‏:‏

ثمانية تجري على الناس كلهم *** ولا بد للإنسان يلقى الثمانيه

سرور وحزن واجتماع وفرقة *** ويسر وعسر ثم سُقْمٌ وعافيه

ونحو قول أبي الطيب‏:‏

على ذا مضى الناس اجتماع وفرقة *** وميْتٌ ومولود وقالٍ ووامق

فهذه أحوال تعرض لابن آدم على التوارد، لا يسلم منها في الجملة، ولا تنحصر لبقاء العز والذل والقوة والضعف والحركة والسكون، وغير ذلك مما لا يحصى، وكثير منها يصلح رده إلى ما ذكر بضرب من التأويل، ولو اشتغلنا بتفصيل ذلك وشرحه لغة واصطلاحًا لطال واحتاج إلى ديوان وحده أو أكثر، فلنقتصر على الإجمال مع الإلمام‏.‏

فالأول وهو السرور والحزن فنقول‏:‏ هما مترتبان على المحاب والمكاره، ومن المحبوب فوات المكروه ومن المكروه فوات المحبوب، والإنسان لا يخلو من أن يظفر بمحبوب فيسر به أو يفوت فيحزن، وفي الحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ كان صلى الله عليه وسلم يومًا في البيت يعمل عملًا فنظرت إلى وجهه صلى الله عليه وسلم، وهو يتهلل أو كما قالت، فقلت يا رسول الله أنت والله أحق بقول أبي كبير، تعني الهذلي‏:‏

ومُبَرَّأٍ من كلِّ غُبَّر حيضة *** وفساد مرضعة وداءٍ مُغْيِلِ

وإذا نظرت إلى أسِرَّة وجهه *** برقت كبرق العارض المتهلل

قالت‏:‏ طرح ما في يدي وأخذني وقبل ما بين عيني وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا عامر ما سررت بشيء كسروري بك‏.‏ وقد ذكر القصة في الإحياء، وقال صلى الله عليه وسلم يوم فتح خيبر، وقد قدم عليه جعفر ابن أبي طالب رضي الله عنه فعانقه‏:‏ لا أدري بمَ أُسَرّ أبفتح خيبر، أم بقدوم جعفر‏؟‏ وقال صلى الله عليه وسلم يوم مات ابنه إبراهيم‏:‏ «العَيْنُ تَدْمَع، وَالْقَلْبُ يَحْزَن، وَلا نَقُول إلاّ مَا يُرْضي رَبَّنَا، وإنّا بِفِرَاقِكَ يَا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزونُونَ»‏.‏

ثم الإنسان في أيام دهره لا يكاد يخلو من سوء، فإن الدنيا دار بلاء ومحنة، ولا سيما في حق المؤمن الذي هي في حقه سجن، فقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلْنَبْلُوَنَّكُمْ حتّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ‏}‏‏.‏ وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏الم، أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَلْيَعْلَمَنَّ اللهُ الّذِينَ صَدَقُوا وَلْيَعْلَمَنّ الكَاذِبِينَ‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلْنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَمَرَاتِ‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏لَتُبْلَونَّ في أمْوَالِكُمْ وَأنْفُسِكُمْ وَلْتَسْمعُنَّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَذِينَ أَشْركُوا أذى كَثِيرًا‏}‏ إلى غير ذلك‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أشَدَّكُمْ بَلاءً الأنْبِيَاءُ ثُمَّ الأمْثَلُ فَالأمْثَلُ»‏.‏

وقال الشيخ أبو القاسم الجنيد رضي الله عنه‏:‏ أصلت لنفسي أصلًا فلا أبالي بعده، وهو أني قدرت أن هذا العالم كله شر، ولا يلقاني منه إلاّ الشر، فإن لقيني الخير فنعمة مستفادة، وإلاّ فالأصل هو الأول‏.‏

ومن غريب ما اتفق في هذا المعنى أن بعض الملوك نظر في كتاب الحكمة فإذا فيه‏:‏ إن الدهر لا يخلو من المصائب، وإنه لا يصفو فيه يوم من كدر فقال‏:‏ لأكذبن هذا‏.‏ وأعد ليلة لسروره‏.‏ وأحضر فيها كل ما يحتاج، وكانت عنده جارية حظية هي مجمع لذته، ومنتهى أنسه، فأحضرها لذلك، وأمر أن تصرف عنه الصوارف وتقطع عنه الأشغال ليتفرغ لمتعته وأنسه، ويقضي الأرب كله من هوى نفسه، فحين أمسى كان أول ما قرب للجارية العنب، فأخذت حبة وجعلتها في فيها فغصت بها، وكان ذلك آخر العهد بها‏.‏

فلم يرَ الملك أمرّ من تلك الليلة، ولا مصيبة ولا هما ولا حزنًا أفظع مما فيها فسبحان القاهر فوق عباده، الغالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون‏.‏

مقام الشكر

ومقام الصبر عند الصوفية العارفين

هذا ومتى تأمل العبد أحواله، واستقرأ عوارضه، وجد لطف الله تعالى أغلب، ونعمته عليه أوسع، قال تعالى‏:‏ ‏{‏الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصوهَا‏}‏، وفي الخبر‏:‏ ‏[‏يَقُولُ الله تَعَالَى‏:‏ ‏{‏إنَّ رَحْمَتي سَبَقَتْ غَضَبي‏}‏‏]‏‏.‏

ولا يشك العاقل أن أيام البلاء أقل من أيام العافية، وأوقات العسر أقل من أوقات اليسر وهكذا‏.‏

وقد قال الله تعالى في قصة آل فرعون‏:‏ ‏{‏فَإذَا جَاءتْهُمُ الحَسَنَة قَالُوا لَنَا هَذِهِ‏}‏ الآية‏.‏ ثم لا يخلو وقت من لطف، ولذا قال أئمة التصوف رضوان الله عليهم‏:‏ العارف من عرف شدائد الزمان في الألطاف الجارية‏.‏

ثم المؤمن كما في الحديث كله بخير، إن أصابه الخير شكر الله تعالى فكان له خيرًا، وإن أصابه شر صبر فكان خيرًا له‏.‏

وقال بعض العارفين‏:‏ الناس كلهم في مقام الشكر، وهم يحسبون أنهم في مقام الصبر‏.‏ وبيان هذا من أوجه‏:‏ الأول- أن موجب الشكر وهو النعمة أغلب، والحكم للأغلب‏.‏

الثاني- أنه ما من شر وبلاء يصيب العبد إلاّ وفي مقدور الله تعالى من البلاء ما هو أفظع منه قد صرفه الله تعالى، فيجب الشكر على الاقتدار على ما وقع‏.‏

الثالث- ما يفيده البلاء من رياضة النفس وتشجيعها للنوائب وإخماد سَوْرَتِها والنجاة من طغيانها وما يجر إليه من البلاء دينًا ودنيا، وتربية العقل بتعريفه تقلبات الدهر وفتح البصيرة في الأمور وهذه الأوجه عامة في المؤمن وغيره‏.‏

الرابع- ما يحصل بالبلاء في الدنيا من مزيد المعرفة بالله تعالى وقهره وقوته وبطشه وفي الآخرة من الأجر العظيم‏.‏

الخامس- ما يحصل للنفس من الخشوع لخالقها والانفكاك عن المعصية‏.‏

السادس- سلامة ثوابه من شوب الرياء وما يفسده إذ لاحظ للنفس فيه فهو خير قد دخل عليها بلا تعمل، فالشكر عليه أحق، إلى غير ذلك من الفوائد التي يطول تعدادها، فمن علم ذلك كان البلاء عنده محل الشكر فصار في مقام الشكر على كل حال‏.‏

لله الأمر من قبل ومن بعد‏.‏

الشجرة الخضراء في المدينة الحالية‏:‏ سجلماسة

كان بسجلماسة أيام ارتحلنا إليها للقراءة زمان الصبا شجرة يقال لها الشجرة الخضراء مشهورة في تلك البلاد وفي سائر بلاد القبلة، وهي قدر الزيتونة أو السدرة الكبيرة، وورقها يقرب من ورق السدر، وسبب شهرتها أنها غريبة الشكل دائمة الخضرة وغريبة في محلها لأنها في البلد وليست من شجر البلد، وهي منفردة ليس معها شجر أصلًا، وكانت نابتة خارج سور المدينة الخالية بينه وبين النهر قبالة الرصيف الذي يعبر عليه لناحية الزلاميط، ويقال‏:‏ إن ذلك باب من أبواب تلك المدينة، والله أعلم‏.‏

ثم إن الأستاذ الفاضل أبا يزيد عبد الرحمن بن يوسف الشريف بعث إليها جماعة من الطلبة فقطعوها، وكان ذلك يوم الخميس، وكنت جئت من ناحية المراكنة ذلك اليوم قصدًا إلى سوق الخميس، فلما بلغت إلى الشجرة وجدت الطلبة حين بلغوا إليها بقصد قطعها فقعدت حولها أنظر، فلما انفصل أهل السافلة من السوق وكانت طريقتهم كان كل من يمر فيراها تقطع يصيح ويتأسف ويقول‏:‏ ما فعلت لكم المسكينة‏؟‏ وكان أهل سجلماسة لما استغربوا أمرها يزورونها، ولا سيما النساء، فيكثرون عليها من تعليق الخيوط ويطرحون الفلوس أسفلها، وربما تغالت النساء في تعظيمها والتنويه بشأنها حتى يسمينها باسم امرأة صالحة كالسيدة فاطمة ونحو ذلك، فلهذا أمر الأستاذ المذكور بقطعها وكأنه يرى أنها صارت ذات أنواط كما قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه، فذكرناها نحن للتنبيه على ذلك، فإن عوام الناس أكثروا عليها منذ عقلنا حتى كانوا ينسبون إليها من ترهات الأراجف نحو قولهم‏:‏ قالت الشجرة الخضراء‏:‏ هذا زمان السكوت، من قال يموت، فليعلم الناظر أنها إنما هي شجرة لا تضر ولا تنفع، ولا تبصر ولا تسمع، ومثلها أحق أن يقطع‏.‏

ومن هذا نسيت شجرة بيعة الرضوان حتى لم يثبت عليها الصحابة الذين كانوا تحتها فضلًا عن غيرهم، وذلك مخافة أن تعبد‏.‏

وسمعت الفاضل الناسك البكري بن أحمد بن أبي القاسم بن مولود الجاوزي رحمه الله يحدث عن أسلافه أن شيخ المشايخ أبا القاسم الغازي رضي الله عنه ونفعنا به كان يقول لهم‏:‏ إنه نزلت عليه القطبانية تحت شجرة ببلد أجاوز، فيقولون له‏:‏ يا سيدنا لِمَ لمْ ترنا تلك الشجرة، فيقول خفت أن تتركوا السبع وتعبدوا النغورة أي مغارته أي يتركونه فلا ينتفعون به ويشتغلون بالشجرة‏.‏

وكانت بقرب تاغية مقام الشيخ أبي يعزي شجرة من أحجار يقال له‏:‏ البقرة، وكل ذلك حقيق بالإزالة، غير أن العالِم سيفُه لسانُه، وما وراء ذلك إنما هو لأهل الأمر، ومن له قدرة على الأمر‏.‏

نعم، التبرك بآثار الصالحين مع صحة العقيدة لا بأس به، وله أصل في فعل الصحابة رضوان الله عليهم، فقد كان ابن عمر رضي الله عنهما يدير راحلته حيث رأى النبي صلى الله عليه وسلم أدارها ويتحرى الأماكن التي صلى فيها صلى الله عليه وسلم، وذلك مذكور في الصحيح وفيه قيل‏:‏

خليلي هذا ربع عزة فاعقلا *** قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلت

ولا تيأسا أن يمحو الله عنكما *** ذنوبًا إذا صليتما حيث صلت

ورأيت في بلاد المصامدة وخصوصًا بلاد رجراجة من هذا كثيرًا بقي عندهم موروثًا خلفًا عن سلف عندما يدورون على صلحائهم زائرين، ولما حضرت معهم في الدور في هذه السفرة التي بدأت فيها هذه الأوراق، وذلك سنة خمس وتسعين وألف لم أوافقهم في فعل كثير مما يفعلون من ذلك مخافة أن يتخذني العوام حجة فيتغالون في ذلك، ومع ذلك لم أخل نفسي من التبرك بأمور قريبة لا بأس فيها‏.‏

وفي بلاد المغرب مواضع اشتهرت بآثار الصالحين ووقع التغالي فيها، منها شالة في رباط سلا، فلا يعرف لها إلاّ أنها مزارة يزورها الناس ويتبركون بمن فيها، ولم يظهر فيها بهذا العهد إلاّ يحيى بن يونس، وهو مشهور عند الناس، ولا تعرف له ترجمة، وملوك بني عبد الحق، وهم معروفون، ولا بأس بهم، وكل ما يذكر فيها مما سوى ذلك ويوجد في بعض الأوراق المجعولة من الأخبار فلا يعرف له أصل ولا يعول عليه‏.‏

ومنها ميسرة في بلاد ملوية حيث مدفن الشيخ أبي الطيب بن يحيى الميسوري، ويقال لها تامغروات قد اشتهرت عند الناس، وتوجد فيها أخبار وأحاديث في الأوراق وألسنة الناس، وسألت عن ذلك بعض أولاد الشيخ المذكور وهو الفاضل أبو عبد الله محمد بن أبي طاهر عند نزولنا عليه فقال‏:‏ ما ثبت عندنا في هذا الموضع إلا أنه كان رابطة لأسلافنا يتعبدون فيه، فقلت له‏:‏ نعم الوصف هذا، فإن متعبد الصالحين حقيق أن يتبرك به، فهذا أيضًا غاية ما يثبت في الموضع وما وراء ذلك لا يلتفت إليه‏.‏

ومنها رباط شاكر وهو مشهور، وكان مجمعًا للصالحين من قديم، ولا سيما في رمضان، يفدون إليه من كل أوب، حتى حكى صاحب التشوف عن منية الدكالية رضي الله عنها أنها حضرت ذات مرة في رباط شاكر فقالت لبعض من معها‏:‏ إنه حضر هذا العام في هذا الرباط ألف امرأة من الأولياء، فانظر إلى عدد النساء فكيف بالرجال‏!‏ فلا شك أن هذا الموضع موضع بركة ومجمع خير، ولكن لم نقف من أمره إلا على ما وقع في التشوف من أن شاكرًا ذكر أنه من أصحاب عقبة بن نافع الفهري وأنه هنالك، وأن يعلى بين مصلين الرجراجي بناه، وكان يقاتل كفار برغواطة، وغزاهم مرات، وأن طبله هو الباقي هنالك إلى الآن، والله أعلم‏.‏ ولم يظهر فيه في العهد من مشاهد الصالحين إلا أبو زكرياء المليجي، والله أعلم‏.‏

لله الأمر من قبل ومن بعد‏.‏

محتالون يظهرون الصلاح ويخدعون الناس

مما وقع بسجلماسة قريبًا من هذه القصة أنه شاع في البلد ذات ليلة أنه قد ظهر رجل في المدينة الخالية، فأصبح الناس يهرولون إليه أفواجًا، وخرجنا مع الناس فقائل يقول‏:‏ ولي من أولياء الله، وآخر يقول‏:‏ صاحب الوقت، فلما بلغنا المدينة وجدنا الخلق قد اجتمعوا من كل ناحية على ذلك الرجل حتى أن أمير البلد وهو محمد بن الشريف خرج في موكب حتى رآه فلما كثر الناس اشتد الزحام عليه وتعذرت رؤيته، دخل في قبة هناك في المقابر فاخرج كفه من طاق في القبة فجعل الناس يقبلون الكف وينصرفون، وكان كل من قبل الكف اكتفى ورأى أنه قضى الحاجة فقبلناه وانصرفنا، ثم بعد أيام سمعنا أنه ذهب إلى ناحية الغرفة، وأنه سقط في بئر هنالك ومات، فظهر أنه رجل مصاب، وكأنه يشتغل باستخدام الجان ونحو ذلك فهلك‏.‏

وإنما ذكرنا هذا ليعلم وينتبه لمن هذا حاله، فكم تظاهر بالخير من لا خير فيه من مجنون أو معتوه أو موسوس أو ملبس، فيقع به الاغترار، للجهلة الأغمار‏.‏

ما أنت سار غرّه قمر *** ورائدٍ أعجبه خضرة الدمَنِ

وقد يشايعه من هو على شاكلته من الحمقى ومن الفجار، وشبه الشيء منجذب إليه‏.‏

إن الطيور على أجناسها تقع

فيغتر الأغبياء بذلك إلا من عصمه الله‏.‏

وقد صعدت في أعوام الستين وألف إلى جبل من جبال هسكورة فإذا برجل نزل عليهم من ناحية الغرب، واشتهر بالفقر، وبنى خباء له وأقبل الناس عليه بالهدايا والضيافات، وكان من أهل البلد فتى يختلف إليه ويبيت عنده، فاستراب من أمره بعض الطلبة، فتلطف مساء ليلة حتى ولج الخباء، فكمن في زاوية منه فلما عسعس الليل قام المرابط إلى الفتى فاشتغل معه بالفاحشة، نسأل الله العافية، ثم علم أن قد علموا به فهرب، وبلغ الخبر إلى اخوة الفتى فتبعوه، ولم أدر ما كان من أمره، ومثله كثير‏.‏ ومن أغرب ما وقع من هذا أيضًا بسجلماسة ما حدث به أخونا في الله الولي الصالح أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن علي بن طاهر الشريف المعروف بابن علي رضي الله عنه قال‏:‏ ما لعب بإخواننا يعني أشراف سجلماسة إلاّ رجل جاءهم في البلد واتَّسم باسم الصلاح، ووقع الإقبال عليه، فكان يأتيه الرجل فيعده بأن يبلغه إلى مكة ويحج به طرفة عين، واستمر على ذلك مدة، ثم قام نفر من الأشراف اتفقوا على اختباره، فكمنوا قريبًا منه، وتقدم إليه أحدهم وعنده نحو خمسين مثقالًا فقال له‏:‏ يا سيدي إن هذه الصلاة تثقل علي، فعسى أن ترفعها عني، وأفرغ تلك الدراهم بين يديه، وكأنه هش لذلك، فبادره الآخرون قبل أن يستوفي كلامه وأوجعوه ضربًا وطردوه‏.‏ ثم بعد مدة سافر بعضهم إلى الغرب فمر بعين ماء هنالك، فإذا الرجل عندها يستقي قربة له منها، وإذا هو يهودي من يهود معروفين هنالك، نسأل الله العافية‏.‏

فالحذر مطلوب، ولا سيما فيما نحن فيه من آخر الزمان الذي استولى فيه الفساد على الصلاح، والهوى على الحق، والبدعة على السنّة، إلاّ من خصه الله وقليل ما هم، وفيه قيل‏:‏

هذا الزمان الذي كنّا نحاذره *** قول كعب وفي قول ابن مسعود

إن دام هذا ولم يحدث له غير *** يبك ميت ولم يفرح بمولود

بل نقول‏:‏ ليته يدوم، فإنه لا يأتي بأمان إلاّ والذي بعده شر منه كما في الحديث الكريم‏.‏

نعم لا بد للناس من تنفيس، فنسأل الله تعالى أن يرزقنا تنفيسًا نقضي فيه ما بقي من أعمارنا في خير، ونستعتب مما مضى، إنه الكريم المنان‏.‏

هذا، ولا بد مع الحذر من حسن الظن بعباد الله، ولا سيما من ظهر عليه الخير والتغافل عن عيوب الناس‏.‏

وفي الخبر‏:‏ خصلتان ليس فوقهما شيء من الخير‏:‏ حسن الظن بالله وحسن الظن بالناس، وخصلتان ليس فوقهما شيء من الشر‏:‏ سوء الظن بالله وسوء الظن بالناس، ومن تتبع عيوب الناس تتبع الله عيوبه حتى يفضحه في قعر بيته‏.‏

فالاعتراض بلا موجب جناية، واتباع كل ناعق غواية‏.‏

وفي كلام مولانا علي كرم الله وجهه‏:‏ الناس ثلاثة‏:‏ عالم ربّاني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهَمَجٌ رَعاعٌ، أتباع كل ناعق‏.‏ فمن ثبتت استقامته، وصح علمه وورعه وجب اتباعه، ومن اتسم بالخير وجب احترامه على قدره، والتسليم له في حاله، ومن ألقى جلباب الحياء عن وجهه وجب لومه، وإذا ظهرت البدعة وسكت العالم فعليه لعنة الله، ولا بد من مراعاة السلامة‏.‏

وهذا باب واسع لا يكفيه إلاّ ديوان وحده، وإنما ذكرنا هذه الإشارة استطرادًا‏.‏

لله الأمر من قبل ومن بعد‏.‏

أشعار في الكرم وخدمة الضيف

من الشعر المستملح في باب التكرم قول المقنَّع الكِندي أنشده القالي في النوادر‏:‏

يعاتبني في الدَّين قومي وإنما *** ديونيَ في أشياء تكسبهم حمدا

أسدُّ به ما قد أخلّوا وضيعوا *** ثغورَ حقوقٍ ما أطاقوا لها سدا

وفي جفنة ما يغلق الباب دونها *** مكللة لجما مدفقة ثردا

وفي فرس نهد عتيق جعلته *** حجابًا لبيتي ثم أخدمته عبدا

وإن الذي بيني وبين أبي *** وبين بني عمّي لمختلف جدا

فإن يأكلوا لحمي وفرْتُ لحومهم *** وإن يهدموا مجدي بنيت لهم مجدا

وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم *** وإن هم هوُوا غيي هويت لهم رُشدا

ولا أحمل الحقد القديم عليهم *** وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا

لهم جل مالي إن تتابع لي غنى *** وإن قل مالي لم أكلفهم رفدا

وإني لعبد الضيف ما دام نازلًا *** وما شيمة لي غيرها تشبه العبداد

ونحوه قول عروة بن الورد‏:‏

أيا بنت عبد الله وابنة مالك *** ويا بنت ذي البردين والفرس الورد

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له *** أكيلا فإني لست آكله وحدي

أخًا طارقًا أو جار بيت فإنني *** أخاف مذمات الأحاديث من بعدي

وكيف يسيغ المرء زادًا وجارُهُ *** خفيف المِعى بادي الخصاصة والجهد

وللمَوْتُ خير من زيارة باخل *** يلاحظ أطراف الأكيل على عمد

وإني لعبد الضيف ما دام ثاويًا *** وما فيَّ إلاّ تلك من شيمة العبد

وقول الآخر‏:‏

لعمر أبيك الخير إني لخادم *** لضيفي، وإني إن ركبت لفارس

لله الأمر من قبل ومن بعد‏.‏

أصناف الناس

قال معاوية رضي الله عنه يومًا لصعصعة بن صوحان وكان من البلغاء‏:‏ صف لي الناس‏.‏ فقال‏:‏ خلق الناس أخيافًا، فطائفة للعبادة، وطائفة للتجارة، وطائفة خطباء، وطائفة للبأس والنجدة، ورجرجة فيما بين ذلك، يكدرون الماء، ويُغلُون السِّعر ويضيقون الطريق‏.‏ وقال الآخر في نحو هذا‏:‏

الناس هم ثلاثة *** فواحد ذو درقه

وذو علوم دارس *** كتبه وَوَرَقَه

ومنفق في واجب *** ذهبَه وَوَرِقه

ومن سواهم همج *** لا وَدَكٌ لا مرقه

وفي كلام مولانا علي كرم الله وجهه لكميل بن زياد‏:‏ الناس ثلاثة‏:‏ عالم ربّاني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع، أتباع كا ناعق‏.‏

وقال الآخر‏:‏

ما الناس إلاّ العارفون بربهم *** وسواهم متطفل في الناس

وهذا المعنى له تفصيل وتحقيق، والاشتغال به يطيل، ويكفي اللبيب فيه ما مرّ عند ذكر الحسب وتفصيل المزايا في الناس‏.‏

لله الأمر من قبل ومن بعد‏.‏

أصناف بقاع الأرض

كان شيخنا الأستاذ المشارك الفاضل الناسك أبو بكر بن الحسن التطافي ينشدنا كثيرًا في التنويه بالعلم قول القائل‏:‏

وما عرَّف الأرجاء إلاّ رجالها *** وإلاّ فلا فضلٌ لتُرْب على تُرْبِ

والمعنى أن القطر من الأرض وكذا المدينة والقرية تعرف وتشرف بنسبة المعروف إليها كأبي عثمان المغربي وابن عامر الشامي والحسن البصري وأبي الحسن الحرالي وغيرهم‏.‏

واعلم أن بقاع الأرض كأفراد الإنسان، هي كلها مشتركة في كونها أرضًا وتربة، ثم تتفاوت في المزايا الاختصاصية، إما من ذاتها بأن يجعلها الله منبتًا للعشب، وهي أفضل من السبخة أو مزرعة، وهي أفضل من الكنود أو سهلة، وهي أفضل من الحزن، وقد ينعكس الأمر، أو معدنًا، وتتفاوت بحسب الجواهر المودعة فيها، أو منبعًا للماء، وتتفاوت بحسب المياه، إلى غير ذلك من مختلفات الفواكه والأشجار والأزهار وسائر المنافع، وأما من عارض، كأن يختصها الله تعالى بكونها محلًا لخير إما نبوءة بيته بمكة، فهي أشرف البقاع ما خلا المدينة من ثلاثة أوجه‏:‏ الأول كونها محلًا لبيته، وقبلة لعباده، والثاني كونها عمارة خليله إبراهيم عليه السلام، الثالث كونها مولد ومبعث أشرف الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام، إلى وجوه أخرى ككونها وسط الأرض أو أرفع الأرض أو من تحتها دحيت الأرض، وكونها حرامًا وغير ذلك ولبيت المقدس قسط من هذا الفضل لأنها مأوى الأنبياء، وكانت قبله، واختصت المدينة طيبة بكونها مهاجر أشرف الخلق ومدفنه مع أكابر أصحابه رضي الله عنهم فصارت خير البقاع حتى مكة عند علمائنا أما التربة التي تضمنت شخصه الكريم صلى الله عليه وسلم فلا مثل لها في الأرض ولا في السماء قطعًا‏.‏

وأما نبوءة فتشرف كل بلدة ولد فيها نبي أو بعث أو أقام أو دفن، وتشتهر بذلك وتتعرف كما قال صلى الله عليه وسلم يوم الطائف للغلام وقد قال له‏:‏ إنه من نينَوى‏.‏ «قَرْيَةُ أخي يُونُسَ عَلَيْهِ السّلامُ» وإما علم فكل قرية أيضًا أو بلدة كان فيها عالم أو كان منها فهي تشرف بذلك وتتعرف كما في البيت المذكور، وإما زهدٌ أو عبادة أو نحو ذلك أو ملك أو جود أو نجدة أو جمال أو خلق حسن أو غير ذلك حتى رخاء العيش وصحة الهواء، فكل ذلك ونحوه يكون به الشرف والاشتهار كما يكون الاشتهار في النقصان والمذمة بأضداد ذلك‏.‏ واعلم أن المولى تبارك وتعالى من لطيف حكمته وسابغ منته كما لم يُخْلِ عبْدًا من عباده من فضل عاجل أو آجل، ظاهر أو باطن، كثير أو قليل، كذلك لم يُخِل بقعة من بقاع الأرض من فضل، ولم يُعْرِ بلدة من مزية يتعلل بها عُمّارُها حتى لا يتركوها، وقد جعل الله تعالى الأهواء مختلفة، والطباع متفاوتة، وحبب لكل أحد ما اختصه به، ذلك تقدير العزيز العليم الحكيم، فتجد هذا يمدح أرضه بكثرة المياه للاتساع في الشرب والطهارة والنقاوة ونحو ذلك، وهذا يمدح أرضه بالبعد عن كثرة المياه لجودة منابتها، وصحة هوائها، وذهاب الوخم عنها، وهذا يمدح أرضه بالسهولة لوجود المزارع فيها وكثرة ريفها واتساع خيرها، وهذا يمدح أرضه بكونها جبالًا لتمنعها وعزة أهلها، وحسن مائها وهوائها وقناعتها وغير ذلك‏.‏

وللشعراء قديمًا وحديثًا في هذا ما يحسن ترداده، ويطول إيراده، فمن ذلك لأبي بكر بن حجة الحموي يتشوق إلى بلده قوله‏:‏

بوادي حماةِ الشامِ عن أيمن الشط *** وحقك تطوى شُقّة الهمّ بالبسط

بلاد إذا ما ذقت كوثر مائِها *** أهيم كأني قد ثمِلْتُ بإسفِنْطِ

فمن يجتهد في أن في الأرض بقعة *** تماثلها قل‏:‏ أنت مجتهد مخط

وصوّبْ حديثَيْ مائِها وهوائِها *** فإن أحاديث الصحيحين ما تُخطي

وللآخر في تلسمان مثل هذا‏:‏

بلد الجدار ما أمرّ نواها *** كلِفَ الفؤاد بحبها وهواها

يا عاذلي في حبها كن عاذري *** يكفيك منها ماؤها وهواها

ولابن حمديس الصقلي في بلده‏:‏

ذكرت صقيلية والأسى *** يهيج للنّفسِ تذكارها

فإن كنتَ أخرجت من جنة *** فإني أحدِّثَ أخبارها

ولولا ملوحة ماء البكا *** حسبت دموعي أنهارها

وللأعرابي‏:‏

أقول لصاحبي والعيس تخدي *** بنا بين المُنيفةِ فالضمار

تمتع من شميم عرّار نجد *** فما بعد العشيّة من عَرّار

ألا يا حبَّذا نفحات نجد *** وَرَيّا روضه بعد القِطار

وأهلك إذ يحلّ الحي نجدًا *** وأنت على زمانك غير زار

شهور ينقضين وما شعرنا *** بأنصاف لهنّ ولا سِرار

وللآخر في تونس‏:‏

لَتونِسُ تونسُ من جاءها *** وتودعه لوعة حيث سار

فيغدو ولو حلَّ أرض العراق *** يحن إليها حنين الحُوار

ويأمل عودًا ويشتاقه اش *** تياق الفرزدق عَوْد النَّوار

وللآخر في مدينة فاس‏:‏

يا فاس حيا الله أرضك من ثرى *** وسقاك من صوب الغمام المسبل

يا جنة الدنيا التي أربت على *** عَدْن بمنظرها البهيّ الأجمل

غُرَفٌ على غُرَفٍ ويجري تحتها *** ماء ألذ من الرحيق السلسل

وكثيرًا ما يقع الحنين إلى المنازل والبلدان، من أجل من فيها من الإخوان والأخدان، كما قال القائل‏:‏

أحب الحِمى من أجل من سكن الحِمى *** ومن أجل من فيها تحب المنازل

وقال المجنون‏:‏

وما حب الديار شغفن قلبي *** ولكن حب من سكن الديارا

وهي خصوصية في البقعة عارضة من سكانها كالذي في البيت، فإن الميل إليها يقتضي فضلها على غيرها بالنسبة إليه، ومن هذا المعنى أكثر العرَب ذكر الحِمى كقوله‏:‏

فإن كان لم يغرّض، فإني وناقتي *** بحجر إلى أهل الحِمى غَرِضان

تحنّ فتبدي ما بها من صبابة *** وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني

الغرض المشتاق، وكقول الآخر‏:‏

وإن الكئيب الفرد من جانب الحِمى *** إليَّ وإن لم آتهِ لحبيب

وكقول الآخر‏:‏

وكنت أذود العين أن ترد البكا *** فقد وردت ما كنت أذودها

خليليّ ما بالعيش عتب لَو أنّنا *** وحدنا لأيام الحِمى من يعيدها

وكقول الآخر‏:‏

ألا أيها الركب المجِدّون هل لكم *** بساكن أجزاع الحمى بعدنا خُبْر‏؟‏

فقالوا‏:‏ قطعنا ذاك ليلًا وإن يكن *** به بعض من تهوى فما شعر السَّفْر

وكقول الآخر‏:‏

بكت عيني اليسرى فلما زجرتها *** عن الغيّ بعد الشيب أسبلتا معا

فليست عشيات الحمى برواجع *** إليك ولكن خِلّ عينيك تدمعا

إلى غير ذلك‏.‏

ويكثرون أيضًا ذكر كقوله‏:‏

شيب أيام الفراق مفارقي *** وأنشزن نفسي فوق حيث تكون

وقد لانَ أيام اللوى ثمَّ لم يكد *** من العيش شيء بعدهنّ يلين

وكقول جرير‏:‏

لولا مراقبة العيون أرَيْنَنا *** مُقل المها وسوالف الآرام

هل يَنْهَيَنَك أن قتلنَ مرقشا *** أو ما فعلن بعروة بن حزام

ذُمَّ المنازل بعدَ منزلةِ اللّوى *** والعيشَ بعد أولئك الأيامِ

إلى غير ذلك‏.‏

وأما نجد وهو ما ارتفع من الأرض من بلادهم وأكثر من ذلك كلّه كقوله‏:‏

سقى الله نجدًا والسلام على نجد *** ويا حبذا نجد على النأي والبعد

وقول الآخر‏:‏

أشاقتك البوارق والجنوب *** ومن علوي الرياح لها هبوب

أتتك بنفحة من شيح نجد *** تصوب والعرار بها مشوب

وشمت البارقات فقلت‏:‏ جيدَتْ جبال البتر أو مطر القليب ***

ومن بستان إبراهيم غنّت *** حمائم بينها فنن رطيب

فقلت لها‏:‏ وقيتِ سهامَ رامٍ *** ورُقْط الريش مطعمها الجنوب

كما هيجت ذا حُزْنٍ غريبا *** على أشجانهِ فبكى الغريب

وما وجد أعرابية قذفت بها *** ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏الأبيات

وتقدم شيء من ذلك، وهو كثير، وذلك في الغالب لحسنه في نفسه هواء وماء ومنابت ومسارح، والناس كلهم مجمعون على ذكر ديار الأحباب ومعاهد الشباب، ولا خصوصية للعرب، وإن كان لهم مزيد رقة‏.‏

لله الأمر من قبل ومن بعد‏.‏

الأريحية

أنشد في النوادر لمحرز العكلي‏:‏

يظلّ فؤادي شاخصًا من مكانه *** لذكر الغواني مستهامًا متيّما

إذا قلت مات الشوق مني تنسمت *** به أرْيحيّاتُ الهوى فتنسما

وفي البيت فائدة، وهي أن لفظ الأريَحِيّة هو بسكون الراء وفتح الياء، ووقع في شعر المولدين أيضًا ما يوافق ذلك‏.‏

مما علق بحفظي من أشعار المعاني عند العرب قول الشاعر‏:‏

فجنبت الجيوش أبا زينب *** وجاد على مسارحك السحاب

يحتمل أن يكون دعاء له بالعافية والخصب، ويحتمل أن يكون دعاء عليه بالإفلاس حتى لا تقصده الجيوش، ثم بالخصب مع ذلك لأنه أوجع لقلبه، حيث يرى الرِّعيْ ولا راعية كما قال الراجز‏:‏

أمرعت الأرض لوَانَّ مالا

لو أن نوقًا لك أو جمالا

أو ثلة من غنم أمّا لا

أي إن كنت لا تجد غيرها، وقال الآخر‏:‏

ستبكي المخاض الجرب أن مات هيثم *** وكلّ البواكي غيرهنّ جمود

أي إنه كان يستحييها بخلًا، ولا ينحرها للضيفان، فهي تبكي عليه، ولا يبكي عليه أحد من الناس إذ لا خير فيه، وهذا هجو، وقد استعمل الجمود في مجرد عدم البكاء، وكأنه لاحظ فيه المبالغة، فإن الناس لعدم اكتراثهم بالهالك أصبحوا في حقه لا يتصور منهم البكاء ولا انحدار دمع كمثل الأحجار ونحوها، ويستعمل الجمود حيث يراد البكاء ولا تسمح العين بالدموع كقوله‏:‏

ألا إن عينًا لم تجد يوم واسط *** عليك بجاري دمعها لجمود

ولذا عيب قول القائل‏:‏

سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا *** وتسكب عيناي الدموع لتجمدا

ومتى اعتبرنا بالمعنى الأول فلا عيب، وقول الآخر هو توبة بن مضرس بن عبد الله التميمي يلقب الخنوت بوزن السنور‏:‏

قتيلان لا تبكي المخاض عليهما *** إذا شبعت من قرمل وأفان

وهذا مدح ضد الأول أي إنهما كانا يهلكانها بالنحر، فإذا ماتا استراحت وشبعت فلم تبك عليهما، والقرمل واحده قرملة، وهي شجرة ضعيفة تنفضح إذا وطئت، ومنه قولهم في المثل إذا التجأ الضعيف إلى مثله‏:‏ ضعيف عاذ بقرملة، والأفاني واحده فانية، وهي شجرة أخرى، وقول الآخر، وهو حميد بن ثور‏:‏

ولقد نظرت إلى أغز مشهر *** بِكْرٍ توَسَّن بالخميلة عُونا

متسنم سنماتها مُتبَجّسٍ *** بالهدر يملأ أنفسًا وعيونا

لقح العجاف له لسابع سبعةٍ *** وشَرِبْنَ بعدَ تَحَلُّؤٍ فروينا

***

يصف السحاب وفعله وانتفاع الأرض به على طريق التّمثيل، فقوله‏:‏ أغر أي سحاب فيه برق ‏"‏أو‏"‏ أبيض، وقوله‏:‏ بكر أي لم يمطر قبل ذلك، وقوله‏:‏ توسن بالخميلة عونًا أي طرقها ليلًا وقت الوسن أي النعاس، والخميلة رملة لينة ذات شجر، والعون جمع عوان، وهي في النساء التي كان لها زوج، وهنا هي الأرض التي أصابها المطر قبل، على التشبيه، وقوله‏:‏ متسنم سنماتها أي طالع على الأكام والتلال، وأصله في الجمل يتسنم الناقة أي يعلو عليها، وهي سَنمة أي عظيمة السنام، مرتفعته، قوله‏:‏ متبجس أي متكبر، بالهدر أي رعده يملأ أنفسًا وعيونًا عجبًا به أو رعبًا منه، قوله‏:‏ لقح العجاف أي الأرضون المجدبة حملت به الماء فأنبتت العشب، وذلك بعد تحلُّؤٍ أي امتناع من السقي لعدم المطر، فهذا كله تمثيل، وقول الآخر‏:‏

حلوا عن الناقة الحمراء أرحلكم *** والبازل الأصهب المعقول فاصطنعوا

إن الذئاب قد اخضرت براثنها *** والناس كلهم بكر إذا شبعوا

أراد بالناقة الحمراء الدهناء، وبالجمل الأصهب الصمان، كأنه يقول‏:‏ ارتحلوا عن السهل وألجئوا إلى الجبال مخافة الغارات، والقائل كان أسيرًا فكتب إلى قومه ينذرهم، وكانت بكر لهم عدوًا فهو يقول‏:‏ الناس كلهم إذا شبعوا أعداء لكم كبكر حذروهم، وهذا المعنى مذكور في قصة أخرى‏:‏ يحكى أن رجلًا من بني العنبر كان أسيرًا في بكر بن وائل، فسألهم رسولًا إلى قومه فقالوا له‏:‏ لا ترسل إلاّ بحضرتنا، وكانوا أزمعوا غزو قومه، فتخوفوا أن ينذرهم، وذلك هو ما أراد هو أيضًا، فأتوه بعبد أسود فقال له‏:‏ أبلغ قومي التحية وقل لهم‏:‏ ليكرموا فلان، يعني أسيرًا من بكر كان عندهم، فإن قومه لي مكرمون، وقل لهم إن العرفج قد أدبي، وقد شكت النساء‏.‏ وأمرهم أن يعروا ناقتي الحمراء، فقد أطالوا ركوبها، وأن يركبوا جملي الأصهب بآية ما أكلت معهم حيسًا، واسألوا الحارث عن خبري، فلما أبلغهم العبد الرسالة قالوا‏:‏ جُنّ الأعورُ، والله ما نعرف له ناقة حمراء ولا جملًا أصهب، ثم سرّحوا العبد ودعوا الحارث فحدثوه بالحديث فقال‏:‏ قد أنذركم، أما قوله‏:‏ العرفج قد أدبى فكناية عن الرجال وأنهم استلأموا أي لبسوا الدروع للغزو، وقوله‏:‏ شكت النساء أي اتخذن الشكاء للسفر، وهي جمع شكوة، معروفة، والحيس أراد به الأخلاط من الناس المجتمعون للغزو، لأن الحَيْسَ يجمع الأقِطَ والسمن والتمر‏.‏

لله الأمر من قبل ومن بعد‏.‏

فضل العلم

كنت في أعوام الستين وألف مرتحلًا في طلب العلم، فدخلت قرية في أرض دكالة، فرأيت فيها رجلًا مسنًا قد لازم المسجد منقطعًا عن الناس، فجلست إليه مستحسنًا لحاله، وفي الحديث‏:‏ «إذَا رَأيْتُمُ الرَّجُلَ قَدْ أُعْطِيَ زُهْدًا في الدُّنْيَا وَقِلَّةَ مَنْطِقٍ فَادْنُوا مِنْهُ، فَإنَّهُ يُلَقَّنُ الحِكْمَةَ»‏.‏

فلما دنوت منه إذا هو يعظم العلم وأهله تعظيمًا بالغًا، فازددت به عجبًا، فكنت أجلس بين يديه ويحدثني ويصبرني على الغربة، ويحضني على العلم رحمة الله عليه، وأنشدني في شأن الغربة ملحونًا‏:‏

أنا الغريب المتوح *** صابر على كلّ هانا

إلى نتجرح ما نقل اح *** في قلب من قطعت أنا

وفي نحو هذا يقول الشاعر‏:‏

إذا كنت في قوم عِدًا لست منهم *** فكل ما علفت من خبيث وطيب

وإن حدثتك النّفس أنك قادر *** على ما حوت أيدي الرجال فكذب

وقال الآخر‏:‏

لا يعدم المرء كِنًّا يستقر به *** وَبُلغةً بين أهليهِ وأحبابه

ومن نأى عنهم قلت مهابته *** كالليث يحقر لما غاب عن غابه

وقال الحريري‏:‏

إن الغريب الطويل الذيل ممتهن *** فكيف حال غريب ما له قوت

وأنشدني في مدح العلم ملحونًا‏:‏

العلم شمعا منيرا *** يتناوله الأكياس

ما فوق منو ذخيرًا *** يزول عن القلب الإحساس

وفضل العلم وشرفه أمهر أشهر من أن يذكر، وأوضح من أن ينكر، ويكفي في ذلك النظر‏.‏

ومن غريب ما حكي أنه اتفق للفقيه الخليل الإمام ابن عرفة رضي الله عنه وكان قد مرض فأصابه غشي قال‏:‏ فجاءتني طائفتان‏:‏ إحداهما عن يميني وجعلوا يرجحون الإسلام، والأخرى عن يساري وجعلوا يرجحون الكفر، عياذًا بالله تعالى‏.‏ قال‏:‏ فأخذ هؤلاء يلقون شبه الكفار ويلهمني الله تعالى الجواب عنها بما كنت عرفت من قواعد العقائد، فعلمت أن العلم ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة‏.‏

لله الأمر من قبل ومن بعد‏.‏

الانزعاج عن الوطن

خرجت في أعوام التسعين وألف من حضرة مراكش حرسها الله، وكنت إذ ذاك منزعجًا عن الوطن، مباياٌ للقطين والسكن، فلقيت أعرابيًا من هوارة، وهم حي من شبانة، فإذا هو قد انزعج عن وطنه في السوس الأقصى، فحدثني عن أحمد بن عبد الله بن مبارك الوقاوي أنه كان هبت له ريح فحسده قومه وقالوا عنه وهو في غربته حتى خرج عن وطنه إلى وداي السوس، قال‏:‏ فجئته ذات مرة وهو في غربته، فقال لي‏:‏ أين العرب وأين القوالون‏؟‏ قال‏:‏ فقلت‏:‏ هم بحالهم، لم يزالوا يقولون، قال ثم أنشد هو ملحونًا‏:‏

إلى برك لي الزمان أركبت عليه *** ولى راد المولى نلقاه عراضا

برك لي مركوب فإني ضاري به *** ما نحسبش أيامي علي مغتاضا

نصبر لأحكام المولى حتى تتقاضا ***

في قوله‏:‏ مغتاضًا من الغيظ، وأبدل من الظاء ‏"‏هنا‏"‏ ضادًا، وكان هذا من عجيب الاتفاق، فإن هذا القول مناسب لأحوالنا معشر الثلاثة، أعني القائل والراوي والسامع، وقوله‏:‏ ‏"‏نصبر لأحكام المولى حتى تتقاضا‏"‏ هذا هو أدب العبد، وهو الصبر لأحكام الله تعالى والسكون تحت مجاري الأقدار، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرْ لحُكْمِ رَبّكَ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏، ونحوه من نصوص الكتاب والسنّة وأقوال أئمة الدين لا يحصى‏.‏

لله الأمر من قبل ومن بعد‏.‏

الحكم التكليفي والحكم التصريفي

واعلم أن الحكم حكمان حكم تكليفي وحكم تصريفي، وكلاهما يجب الإذعان له والتسليم‏.‏

أما التكليفي فهو الوجوب والندب والتحريم والكراهة والإباحة التي وردت بها الشريعة المطهرة‏.‏

وأما التصريفي فهو ما قدر على العبد من غير ذلك مما يرد عليه كالغنى والفقر والعز والذل والصحة والمرض والسرور والحزن وغير ذلك‏.‏ ومورد الأول كلام الله تعالى أمرًا ونهيًا، ومورد الثاني قدرته تعالى إيجادًا وإعدامًا على وفق مشيئته وعلمه؛ وكما لا بد من قبول الأول وامتثاله فعلًا وتركًا وتلقيه بالصبر على ما فيه من المشقة على النفس، وقد تضمحل أيضًا دواعي النفس فيرتقي العبد إلى الرضى والاستلذاذ، كذلك لا بد في الثاني من تلقي محبوبه بالشكر ومكروهه بالصبر؛ وقد تضمحل أيضًا دواعي النفس فيرتقي العبد إلى الرضى‏.‏

ثم إن كل شيء قدر على العبد فلا محالة يقدر له وقت يقع فيه لا يتقدمه ولا يتأخر عنه، فمتى حان وقت شيء فهو بارز لا محالة خيرًا كان أو شرًا لا يمكن أن لا يبرز ولا أن يبرز غيره في موضعه، فالبصير يستكن حتى ينقضي بانقضاء وقته فيجمع بين راحة قلبه والأدب مع ربه، والجاهل يقلق منه أو يروم ظهور غيره دونه فيصير أحمق الحمقاء، ولا يحصل إلا على الشقاء‏.‏

وقال صاحب ‏"‏الحكم العطائية‏"‏‏:‏ ‏"‏ما ترك من الجهل شيئًا من أراد أن يظهر في الوقت غير ما أظهر الله فيه‏"‏ وقالوا‏:‏ الوقت سيف، وأنشدوا‏:‏

وكالسيف إن لاينته لان مسه *** وحَدَّاه إن خاشنته خَشِنان

ولله الأمر من قبل وبعد‏.‏

النفس والشيطان

وأنشدني أبو البقاسم بن بوعتل الشباني ثم الزراري لبعض الأعراب ملحونًا‏:‏

يا رأسي عيبك بان *** والى عيبو ما يصيب ايدسو

قالوا علة ابن آدم شيطان *** وإنا نقول علة ابن آدم نفسو

قبل لا يزيغ إبليس *** اش يكون ابليسو

فانظر إلى هذا الأعرابي كيف غاص على معنى كبير وهو أن نفس الإنسان سبب هلاكه بإذن الله تعالى إلاّ من عصمه الله، وكيف وقع على حجة برهانية وقياس منظوم في النفس، وتقريره أن يقول‏:‏ لو كان كل زائغ إنما يزيغ بشيطان لكان إبليس حين زاغ بإبليس آخر، والتالي باطل للزوم التسلسل فالمقدم مثله‏.‏

***

ونحو هذا في الاستدلال ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم حيث أبطل العدوى بمعنى أنه لا تأثير فيها لغير الله تعالى فقال له الأعرابي‏:‏ ما بالنا نرى الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء، فيدخلها جمل أجرب فتجرب كلها، فقال له صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فَمَنْ أعْدَى الأوَّلَ»‏؟‏ أي لو كان جمل إنما يأتيه هذا البلاء من آخر قبله لزم التسلسل، وهو باطل، فلا بد أن ينتهي الأمر إلى بعير يصيبه البلاء من عند الله بلا سبب هذه العدوى فيعلم عند ذلك أن الله تعالى هو الفاعل المختار، يفعل الشيء عند الشيء، وهو قادر أن يفعله بلا شيء ولا عند شيء، سبحانه عما يشركون‏.‏

واعلم أن ما ذكره هذا الأعرابي في ملحونه من أن علة الإنسان نفسه صحيح، وعزله الشيطان عن ذلك غير صحيح إن أراد أنه لا مدخل له، وإن أراد أنه غير مستقل بالإضرار لمشاركة النفس له أو أن ضرر النفس هو الأعظم لأنها المباشرة والشيطان متسبب فصحيح، وتقرير هذه الجملة باختصار‏:‏ إن كلًا من النفس والشيطان مضر بالعبد فهما متظاهران على العبد كما قال ‏[‏بعضهم‏]‏ وقد ضم إليهما الدنيا والهوى‏:‏

إني بليت بأربع يرمينني *** بالنبل عن قوس لها توتير

إبليس والدنيا ونفسي والهوى *** يا رب أنت على الخلاص قدير

وسبب ذلك أن الآدمي لما أبدعه الله تعالى بقدرته مؤتلفًا من الأخلاط ذا مزاج جعله سبحانه بباهر حكمته وسابق مشيئته مفتقرًا عادة في بقاء وجوده الشخصي إلى القوام وهو الغذاء بالطعام والشراب وفي بقاء وجوده النوعي إلى التوالد بواسطة ‏[‏النكاح، فطبع فيه عند ذلك شهوة الأكل وشهوة النكاح‏]‏ و ‏[‏لو‏]‏ لم يكن ذلك طبعًا لافتقر إلى داع آخر فيتسلسل، أو يبقى فاترًا عن ذلك فيهلك شخصًا أو نوعًا، فسبحان المدبر الحكيم‏.‏

ثم لما كانت الشهوتان أعني الأكل والنكاح لا تحصلان إلا من مادة وهي المال وبه يحصل المأكول، والنساء وبهن يحصل النكاح المؤدي إلى التناسل المذكور، والنساء لا يحصلن إلاّ بالمال أيضًا، طبع الله فيه حب المال وحب النساء وكل ما يستعان به في ذلك الباب من صحة وقدرة وجاه، وذلك هو مجموع الدنيا، فكانت الدنيا محبوبة طبعًا للحكمة المذكورة، وكان ميل النفس إلى سيئ من هذه المحبوبات بمقتضى الشهوتين المذكورتين، وهو المعبر عنه الهوى طبعًا في الإنسان، وكل ذلك في أصله رحمة من الله تعالى للإنسان كما ترى، إذ لولا ذلك لم يستمر له وجود‏.‏

ثم جعل الله تعالى العبد متأثرًا بالعوارض في بدنه وفي ماله وفي حريمه ونحو ذلك فافتقر إلى احتماء عن ذلك ودفاع فطبع فيه الغضب وهو أيضًا رحمة منه تعالى، إذ لولا هو لم ينتهض للدفع عن نفسه ولا حريمه ولا ماله ولا جاره ولا غير ذلك ولا لتغيير منكر ولا نحو ذلك‏.‏

ثم إن النفس لما كان فيها ذلك طبعًا استعدت لأن تتقاضاه من كل وجه ‏[‏طلبًا‏]‏ لحصول المرام على التمام فتأكل مثلًا وتبالغ ولا تقتصر على القدر المحتاج، ولا تتنزه عن الزائد المضر، وتشرب كذلك وتنكح، ثم لا تبالي من أي وجه حصل ذلك أمن مأذون فيه أم محرم، لأن سعيها طبعي لا شرعي، وكذا في غضبها ودفاعها، فمتى تركت وذلك أضرت بالعبد عاجلًا بحصول الأمراض وإتلاف الأموال في الشهوات وانتهاك الأعراض والمروءات وكثرة اللجاج والعدوان والهلاك والبوار، وآجلًا بالتعريض لطول الحساب، وأليم العقاب، عند وجوب التكليف، وهذه هي المضرة المنسوبة للنفس، فخلق الله تعالى العقل ليكون محتسبًا عليها حتى تكون فيما ذكر من الشهوة والغضب تابعة لإشارة العقل أخذًا وتركًا، وأودع الله تعالى في العقل إدراك المصالح والمفاسد والمنافع والمضار حتى يعلم ما يشير به أمرًا ونهيًا ليجري الأمر على السداد، فلا يقع قصور عن المراد، ولا التعدي إلى ما يوجب الفساد‏.‏

ثم لما كان العقل أيضًا معرضًا للخطأ وللقصور عن كثير من المصالح وللجهل بكثير من المدارك ولا سيما المغيبات لأن النقصان شأن المخلوق افتقر هو أيضًا إلى مؤيد إما إلهام من الله تعالى وإما عقل آخر أكمل كما في حال التربية وتلقين الحكمة، وإمّا وحي سماوي وهو أكمل، فأنزلت الأحكام إليها عند أهل الحق لا إلى العقل فصار العقل مؤيدًا للشرع ومتأيدًا به‏.‏

ثم إن إبليس اللعين عندما وقع له من الخزي والطرد مع صفي الله آدم عليه السلام ما وقع صار عدوًا له حسودًا حقودًا وكذا لذريته إلى يوم القيامة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَا آدَمُ إنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏‏{‏إنَّ الشَيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ‏}‏‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنَّ الشَيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ‏}‏ إلى غير ذلك‏.‏ فكان دأبه السعي في مضرة الآدمي كما يسعى كل عدو في مضرة عدوه، ولم يجد إلى مضرته سبيلًا أيسر ولا سببًا أنجح من أن يأتيه من قبل النفس وطريق الطبع فيزين له ما طبع من الشهوات، ويسوّل له كل قبيح، قال تعالى‏:‏ ‏{‏الشَيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأمُرُكُمْ بِالفَحْشاءِ‏}‏ فحصل اتفاق بين النفس والشيطان على مضرة الآدمي، غير أن المقصد مختلف، فإن النفس لم تكن منها المضرة عن قصد وعداوة، كيف ولا أحب إلى كل أحد من نفسه‏؟‏ بل جهلًا وغلطًا، وذلك أنها أدركت ما في طبعها من الشهوات الحاضرة فاستحسنته، وظنت أن ذلك هو كمال صاحبها إذا ناله، فجاء الشيطان فأغراها مما استحسنت، وزين لها ما ظنت، فاعتقدته نصيحًا، واتخذته خليلًا، تلبي دعوته، وتجيب رغبته، فأتيَ الإنسان منها، وتمكن منه عدوُّه من طريقها، فصارت من هذه الوجه عدوة بل أكبر الأعداء‏.‏

وأما الشيطان لعنه الله فهو يفعل ما يفعل عن عداوة وقصد إضرار، فإنه لما خاب من رحمة الله وطرد عن بابه، نسأل الله العافية، أراد أن يسعى في خيبة الآدمي وبعده عن الله وحرمانه من نعيم الجنة باتباع الدنيا وغرورها والإكباب على شهواتها‏.‏

واعلم أن الشيطان لشدة عداوته للإنسان ليس له غرض في اتباع الإنسان للشهوات وتمتعه باللذات، بل لو أمكنه أن يسعى في حرمانه دائمًا فلا ينال لذة عاجلة ولا آجلة، ولا يحصل على منفعة في الدنيا ولا في الآخرة لكان ذلك هو منيته ورغبته، وهو مقتضى العداوة وثمرة الحسد، إلاّ أنه لما لم يمكنه ذلك لفرضان رحمة الله على عباده وسبوغ نعمه عليهم رأى أن يرتكب به أعظم الضررين فيستزلّه عن أعظم الحظين بل الحظ الذي هو الحظ، وهو الأخروي، ويستهويه إلى الحظ الدنيوي، ورأى أنه إذا خاب عن النفيس الباقي واستبدله بالخسيس الفاني فقد خاب، والأمر كذلك‏.‏ فإن ما في الدنيا لو كان نفيسًا وهو بصدد الانقطاع لم يلتفت إليه، فكيف وهو مع ذلك خسيس ‏"‏مشوب‏"‏ متكدر‏.‏ بل لو كان نعيم الآخرة النفيس ينقطع لوجب أن يلتفت إليه، إذ النفس إنما تجد النعمة ما دامت متناولة لها، فإذا انقطعت عنها تكدرت كالصبي الراضع متى صرف الثدي عن فيه صاح‏.‏

وما مثال النفس في ذلك إلاّ مثال المرأة في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّهُنَّ يَكْفُرْنَ العَشِيرَ، وَإنَّكَ لَوْ أحْسَنْتَ إلى إحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ ثُمَّ رَأتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ مَا رَأيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ»‏.‏ فقد تحصل من هذا أن النفس مضرة بالإنسان من وجهين‏:‏ أحدهما ‏"‏أنها‏"‏ تميل طبعًا إلى الشهوات وتخلد إلى الرعونات، الثاني أنها مسلك الشيطان إلى الإنسان كما مرّ، وإن الشيطان مضر للإنسان أبدًا بوسوسته وتزيينه للنفس‏.‏

وهذه كلها أسباب جعلية اقتضتها الحكمة، والنافع والضار بالحقيقة هو الله تعالى، وتبين أن النفس تابعة للشيطان في مضرة الإنسان سفهًا منها وغلطًا، لا عداوة، ولسان حالها ينشد قول القائل‏:‏

وخلتهم سهامًا صائبات *** فكانوها ولكن في فؤادي

الخاطر النفساني والخاطر الشيطاني

ومن أجل ما ذكرنا بين النفس والشيطان من اختلاف الوجه، وتباين المقصد فرق أئمة التصوف رضوان الله عليهم بين الخاطر النفساني والخاطر الشيطاني بعد اشتراكهما في الحض على السوء في الجملة، وهو أن الخاطر إذا تقاضى معصية مثلًا بعينها فإن أصر على ذلك فهو نفساني، وإن جعل يتحول من معصية إلى أخرى فهو شيطاني، ووجه ذلك أن النفس إنما تطلب المعصية بمقتضى طبعها فيها من حيث أنها شهوة لا غير، فلا تريد أن تنفك عنها حتى تنالها بعينها‏.‏

وأما الشيطان فليس طلبه من الإنسان أن ينال شهوة ومتعة من حيث التنعم بها فإنه عدو، بل من حيث إنها معصية موجبة للعقاب، فمتى دعاه إلى واحدة وتعسرت أو تلكأ عليه فيها دعاه إلى أخرى لقيامها مقامها في المقصود، وهو حصول الإثم واستحقاق النار، نعوذ بالله تعالى من شره‏.‏

لله الأمر من قبل ومن بعد‏.‏

الحقيقة والشريعة

خطر لي ذات ليلة بيت للملك الضليل امرئ القيس بن حجر فوجدته قد احتوى على مقتضى الشريعة الظاهرة والباطنة، وتضمن كل ما تحصل عن دواوين أئمة الدين وأقاويل الصوفية، فقضيت العجب من ذلك، وعلمت أن الله تعالى من باهر قدرته وعجيب حكمته يبرز الحكمة على لسان من شاء وإن لم يكن من أهلها، كما قال بعض السلف حين سمع بعض الولاة نطق بحكمة‏:‏ خذوها من قلب خَرِبٍ، وتبينت إشارة قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الحِكْمَةُ ضَالّةُ المُؤْمِنِ» أي فحقه أن يتلقفها ممن وجدها عنده، وإن لم يكن مرضيًا كما يأخذ ضالته من الدنيا كذلك، وتبينت صدق قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً»، وقول الحكماء الأولين‏:‏ أنزلت الحكمة على ثلاثة أعضاء في الجسد‏:‏ على قلوب اليونان، وأيدي أهل الصين، وألسنة العرب، والبيت المذكور هو قوله‏:‏

الله أنجح ما طلبت به *** والبر خير حقيبة الرحل

فالشطر الأول قد احتوى على الحقيقة كلها، وهي باطن الشريعة، فإن معناه أن ما طلبته بالله فأنت منجح فيه‏.‏ وهو كما قال في ‏"‏الحكم العطائية‏"‏‏:‏ ‏"‏ما تعسر مطلب أنت طالبه بنفسك‏"‏ ومعلوم أنك لست تروم ذلك إلاّ وأنت تعرف الله تعالى وأنه حق لا شريك له، وأنه هو الفاعل المدبر النافع الضار، ثم تنفي عن نفسك وعن حولها وقوتها وتدبيرها واختيارها وتبغي بربك‏.‏ وهذا هو سر العبودية، وهو الكنز الذي يحوم حوله المريدون، ويعنو إليه السالكون، وهو المشار إليه في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلاَّ بِاللهِ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الجَنّةِ»، وهذا هو كلية الأمر، ولا حاجة إلى التطويل‏.‏ والشطر الثاني قد تضمن الشريعة كلها، وهي ان البر خير ما تحمَّله العبد وادخره، أي والفجور شر ما تحمَّله، ويدخل في البرِّ برُّ العبد مع ربه بطاعته له قولًا وفعلًا واعتقادًا، وكذا مع من أوجب الله تعالى طاعته من نبي وأمير ومالك ووالد ونحوهم، وبره مع الناس بالإحسان فعلًا وقولًا وخلقًا، وهو مجموع ما يطلب شرعًا ولا حاجة إلى التطويل‏.‏

لله الأمر من قبل ومن بعد‏.‏

أبيات الحكمة والتمثيل

واعلم أن البيت قد اشتمل على مثلثين مستقلين كما رأيت، فرأيت أن أستطرد هنا من أبيات الحكمة والتمثيل نبذة صالحة يقع بها الإمتاع، ويحصل الانتفاع، فمن ذلك قول لبيد‏:‏

ألا كلُّ شَيءٍ ما خَلا اللهَ بَاطِلُ *** وكُلُّ نَعِيمٍ لا مَحالَةَ زَائِلُ

واعلم أن هذا البيت مع كونه في غاية الحكمة وكونه قد شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك كما ورد في الحديث‏:‏ «أصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشّاعِرُ قَوْلَ لَبِيدٍ‏:‏

ألا كلُّ شَيءٍ ما خَلا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏ *** البيت‏"‏

، يسأل عنه فيقال مثلًا في المصراع الأول‏:‏ إن معرفة الله تعالى وشرعه ودينه وأنبياءه ونحو ذلك داخل فيما جعله باطلًا وليس بباطل، وفي الثاني‏:‏ إن نعيم الآخرة غير زائل فيلزم انتقاض الكليتين‏.‏

والجواب عن الأول من وجهين‏:‏ أحدهما أن المراد ما سوى الله تعالى وما انضاف إليه، كما وقع في الحديث‏:‏ «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ مَلْعُون مَا فِيهَا إلاَّ ذِكْرُ اللهِ وَمَا وَالاهُ وَعَالِمٌ أوْ مُتَعَلِّمٌ»‏.‏ وهذا واضح، فإن صفات الله تعالى لا تدخل في الباطل لانضيافها إلى الذات وشمول الاسم لها، فكذلك كل مُنضاف‏.‏

الثاني أن هذا كلام في الحقائق، ولا شك أن الله تعالى هو قديم واجب الوجود، فهو حق ثابت، والعالم كله محدث، فهو باطل لا ثبوت له من ذاته لكن بإثبات الله تعالى، وهذا الوجه أيضًا واضح لا شبهة فيه، والموجودات كلها متى اعتبرت إضافتها وتعلقها بالله تعالى كانت حقًا به، وهي باطلة بحسب ذاتها ومنها ما هو حق باعتبارين أعني بهذا التعلق وبإثبات الله له شرعًا كما في الوجه الأول، وهو مع ذلك باعتبار ذاته، ولا تنافي في شيء من ذلك، فافهم‏.‏

والجواب عن الثاني ثلاثة أوجه‏:‏ الأول أن المراد نعيم الدنيا، لأنه هو المعروف الشاهد، لا سيما في حق هذا القائل، فإنه كان حين قوله ذلك جاهليًا، لا ذكر للآخرة عنده، فإن قيل‏:‏ من لك بأنه إذ ذاك جاهليّ‏؟‏ ولعله قال هذا بعد الإسلام، قلت‏:‏ قد استفاض في شأنه أنه لم يقل بعد الإسلام إلاّ بيتًا واحدًا، وهو قوله‏:‏

***

الحمد لله إذ لم يأتني أجلي *** حتى لبست من الإسلام سربالا

على أنه لو كان بعد الإسلام لكان إرادة الدنيوي في غاية الوضوح، إذ المراد تهوين أمر الدنيا والتنفير عنها والتزهيد فيها كما وقع ذلك في كلام كثير من أهل الإسلام‏.‏

الثاني أن يكون أيضًا كلامًا في الحقائق، فإن النعيم كله ممكن حادث، فهو بصدد الزوال والفناء فعلًا أو قوة، وما بقي منه إنما بقي بإبقاء الله تعالى لا بذاته‏.‏

الثالث أن يراد أن كل نعيم ناله العبد وتنعم به فهو زائل عنه قطعًا بالشخص، وإنما تتجدد أمثاله، وهذا قدر مشترك بين الدنيوي والأخروي، قال النبي صلى الله عليه وسلم في متاع الدنيا‏:‏ «وَإنَّمَا لَكَ مِنْ مَالِكَ مَا أكَلْتَ فَأفْنَيْتَ، أوْ لَبِسْتَ فَأبْلَيْتَ، أوْ تَصَدَّقْتَ فَأمْضَيْتَ»‏.‏

وقال تعالى في نعيم الآخرة‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ‏}‏‏.‏ وقول الحطيئة‏:‏

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه *** لا يذهب العُرْفُ بين الله والناس

وقول طرفة بن العبد‏:‏

ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلًا *** ويأتيك بالأخبار من لم تزود

وكان صلى الله عليه وسلم ينشده أحيانًا استحسانًا فيقول‏:‏ ويأتيك من لم تزوده بالأخبار، ويقول‏:‏ ‏"‏هُمَا سَوَاءٌ‏"‏ أي التركيبان، يعني في المعنى، فيقول أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ أشهد أنك رسول الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ‏}‏ وقول النابغة‏:‏

ولست بمستبقٍ أخا لا تَلُمُّهُ *** على شعثٍ، أي الرجالِ المهذب‏؟‏

وقول امرئ القيس‏:‏

وإنك لم يفخر عليكَ كفاخر *** ضعيف ولم يغلبْك مثل مغلَّبِ

‏"‏وأخذه أبو تمام فقال‏:‏

وضعيفة فإذا أصابت قدرة *** قتلت، كذلك قدرة الضعفاء

البيت من قصيدته التي مطلعها‏:‏

قدك اتئب أربيت في الغلواء *** كم تعذلون وأنتم سجرائي

والبيت شحره التبريزي بقوله‏:‏ يقول‏:‏ ‏"‏الخمر على شدتها ضعيفة ليس لها بطش، فإذا أكثرت منها قتلت‏"‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏"‏كذلك قدرة الضعفاء يعني أن الضعيف يعمل الشيء بفرق فهو لا يبقي مخافة أن يعطف عليه فلا يكون له فضل في المقاومة‏"‏‏.‏

وقول زهير‏:‏

ومن يجعل المعروف من دون عرضه *** يَفِرْهُ ومن لا يتق الشتم يشتم

وأخوات هذا البيت في ميميته مثله، وهي مشهورة لا نطيل بها‏.‏

غيره‏:‏

لذي الحلم قبْلَ ما تُقرَعُ العصا *** وما عُلَّمَ الإنْسانُ إلاّ ليعلما

وقوله‏:‏

قليلُ المال تصلحهُ فيبقى *** ولا يبقى الكثير مع الفساد

غيره‏:‏

العبد يقرع بالعصا *** والحرّ تكفيه الملامه

وقول عبد الله بن معاوية‏:‏

فعين الرضا عن كل عيب كليلةٌ *** ولكن عين السخط تبدي المساويا

وقول القُطامي‏:‏

قد يدرك المتأني بعض حاجته *** وقد يكون مع المستعجل الزلل

وقوله‏:‏

والناس من يلق خيرًا قائلون له *** ما يشتهي، ولأمِّ المخطئ الهَبَلُ

وسبقه إلى الأول عدي بن زيد في قوله‏:‏

قد يدرك المبطئ من حظه *** والخير قد يسبق جهد الحريص

وقول عمرو بن براقة‏:‏

فما هداك إلى أرضٍ كعالمها *** ولا أعانك في عزم كعزام

وقول عبد الله بن همام‏:‏

وساع مع السلطان ليس بحارس *** ومحترس من مثله وهو حارس

وقول عبيد بن الأبرص‏:‏

الخير يبقى وإن طال الزمان به *** والشر أخبث ما أوعيت في زاد

وقول حسان بن ثابت رضي الله عنه‏:‏

ربّ حلم أضاعه عدم الما *** ل وجهل غطى عليه النعيم

وزعموا أن حسان بينما هو في أُطُمِه، وذلك في الجاهلية، إذ قام في جوف الليل فصاح‏:‏ يا للخزرج فجاءوا وقد فزعوا، فقالوا‏:‏ ما لك يا ابن الفريعة فقال‏:‏ بيت قلته فخفت أن أموت قبل أن أصبح فيذهب ضيعة، خذوه عني، فقالوا‏:‏ وما قلت‏؟‏ فأنشد البيت المذكور‏.‏

وقول أبي ذؤيب‏:‏

والنفس راغبة إذا رغبتها *** وإذا ترد إلى قليل تقنع

وقول زهير‏:‏

وهل ينبت الخطِّيُّ إلاّ وشيجه *** وتغرس إلاّ في منابتها النخل

غيره‏:‏

أرى كل عود نابتًا في أرومةٍ *** أبى منبت العيدان أن يتغيّرا

وقول بشار‏:‏

تأتي المقيمَ وما سعى حاجاتُه *** *** عددَ الحصا ويخيب سعي الطالب

غيره‏:‏

***

متى ما تقد بالباطل الحقّ يَأبَهُ *** وإن قدت بالحقِّ الرواسي تنقد

وقول عبيد‏:‏

من يسأل الناس يحرموه *** وسائل اللهِ لا يخيب

غيره‏:‏

يفرّ جبان القوم عن أُمِّ نفسهِ *** ويحمي شجاع القومِ من لا يناسبه

ويرزق معروف الجواد عدُّوه *** ويُحرَمُ معروفَ البخيلِ أقاربُه

فهذا كله ونحوه مشتمل على مثلين كبيت امرئ القيس، وقد يكون مثلًا واحدًا لقول طرفة‏:‏

رأيت القوافي يتَّلِجْنَ موالجا *** تضايق عنها أن توالجها الإبر

وهو معنى قول الأخطل‏:‏

والقول ينفذُ ما لا تنفذ الإبر ***

وقول علقمة‏:‏

إذا شاب رأس المرء أو قل ماله *** فليس له في ودهن نصيب

وهو لامرئ القيس في قوله‏:‏

أراهن لا يحببن من قل ماله *** ولا من رأين الشيب فيه وقوسا

ومنه قول الأعشى‏:‏

وأرى الغواني لا يواصلن امرءًا *** فقد الشباب وقد يصلن الأمردا

وقول أبي تمام‏:‏

أشهى الرجال من النّساء مواقعًا *** من كان أشبههم بهنّ خدودا

وقول علقمة بن عبدة‏:‏

وكل قوم وإن عزوا وإن كثروا *** عديدهم بأثافي الدهر مرجوم

وكل حصن وإن طالت سلامته *** *** على دعائمه لا بدّ مهدوم

وقول الآخر‏:‏

وما رزق الإنسان مثل منية *** أراحت من الدنيا ولم تُخزِ في القبر

وقول ابن حازم‏:‏

لا تكذبن فما الدنيا بأجمعها *** من الشباب بيوم واحد بدل

ومثله قول منصور النمري‏:‏

ما كنت أوفي شبابي حق غرته *** حتى مضى فإذا الدنيا له تبع

وقول امرئ القيس‏:‏

إذا المرء لم يخزن عليه لسانه *** فليس شيء سواهُ بخزّان ونحوه‏:‏

إذا ضاق صدر المرء عن كتم سره *** فصدر الذي يُستودعُ السر أضيق

وقوله‏:‏

إذا جاوز الاثنين سرّ فإنّه *** يبثُّ وإفشاء الحديث قمين

وقد قيل‏:‏ الاثنان هنا الشفتان، وقول طرفة‏:‏

وإن لسان المرء ما لم يكن له *** حَصَاةٌ على عوراته لدليل

الحصاة‏:‏ العقل وهو إشارة إلى قول الحكماء‏:‏ لسان العاقل من وراء عقله، ولسان الأحمق على العكس، وقول الخنساء رحمها الله‏:‏

ولولا كثرة الباكين حولي *** على إخوانهم لقتلت نفسي

وقول الآخر‏:‏

إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد *** إليه بوجه آخر الدهر تُقْبِل

وغيره‏:‏

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة *** على المرء من وقع الحسام المهند

غيره‏:‏

إذا لم تعرض عن الجهل والحنا *** أصبت حليمًا أو اصابك جاهل

غيره‏:‏

كل امرئ راجع يومًا لشيمته *** وإن تخلق أخلاقًا إلى حين

ونحوه‏:‏

ومن يبتدع ما ليس من سُوس نفسه *** يدعْه ويغلبْه على النفس خِيمُها

السوس والخيم‏:‏ الطبيعة‏.‏

ونحوه‏:‏

إنّ التخلّق يأتي دونه الخُلُقُ

وقد يكون المثل جزءًا لبيت كهذا، ونحوه للنابغة‏:‏

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة *** وليس وراء الله للمرء مطلب

وقوله‏:‏

لمبلغك الواشي أغش وأكذب

وقول دريد‏:‏

متبذلًا تبدو محاسنه *** يضع الهِناءَ مواضع النقبِ

وقول الصَّلَتان العَبْدي‏:‏

نروح ونغدو لحاجاتنا *** وحاجات من عاش لا تنقضي

وقول الآخر‏:‏

تدس إلى العطار سلعة بيتها *** وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر

وقول زهير‏:‏

لهم في الذاهبين أروم صدق *** وكان لكل ذي حسب أروم

وقوله‏:‏

كذلك خيمهم ولكل قوم *** إذا مستهم الضراء خِيم

وقول الآخر‏:‏

تسائل عن حصين كلّ ركب *** وعند جُهَيْنَةَ الخبرَ اليقين

وهذه الأنواع لا يأتي عليها الحصر، وإنما أردنا بعضًا من مختار ذلك ومشهوره، وما تركناه أكثر، وقد يشتمل البيت على ثلاثة أمثال أو أربعة، وهو قليل بالنسبة إلى غيره، فمن غير ذلك قول زهير‏:‏

وفي الحلم إذعان وفي العفو دُربة *** وفي الصدق منجاة من الشر فاصدق

غيره‏:‏

العلم يجلو العمى، والجهل مهلكة *** واللاعب الرفل الأذيال مكذوب

وقول صالح‏:‏

كل آت لا بد آت وذو الجه *** ل معنى والهم والغم فضل

وقولي من قصيدة‏:‏

فلا تهتبل للحادثات ولا تثق *** بما وهبت يومًا فموهوبها معرى

مقربها مقصى ومرفوعها لقىً *** ومنهلها مظما ومكسوها معرى

وقولي فيها‏:‏

وإن أبصروا بالمملق اهتزأوا به *** ومدوا إليه طرفهم نظرًا شزرا

وقالوا بغيض إن نأى ومتى دنا *** يقولون ثقيل مبرم ‏"‏أدبر الفقرا‏"‏

فإن غاب لم يفقد، وإن علّ لم يعد *** وإن مات لم يشهد، وإن ضاف لم يقرا

وهذا الباب لا ينحصر، وقد أودعنا منه ‏"‏كتاب الأمثال والحكم‏"‏ قدرًا صالحًا، ولنقتصر على هذا القدر هنا خوفًا من الملل‏.‏

لله الأمر من قبل ومن بعد‏.‏

روايات المؤلف عن محمد الحاج الدلائي

حدثني الرئيس الأجلّ أبو عبد الله محمد الحاج بن محمد بن أبي بكر الدلائي رحمه الله قال‏:‏ لما نزلنا في طلعتنا إلى الحجاز بمصر المحروسة خرج للقائنا الفقيه النبيه أبو العباس أحمد بن محمد المقري قال‏:‏ وكنت أعرفه عند والدي لم يشب، فوجدته قد شاب، فقلت له‏:‏ شبت يا سيدي فاستضحك ثم قال‏:‏

شيبتني غرندل ويحار *** وبحار فيها اللبيب يحار

قال‏:‏ وحدث أنهم كانوا ركبوا بحر سويس فهال بهم مدة من نحو ستة أشهر، وهم يدورون دورانًا، وأنه ألف في تلك المدة موضوعًا في علم الهيئة وسارت به البركان، فلما خرج من البحر وتصفحه وجد فيه الخطأ الفاحش، وقد فات تداركه، وذلك مما وقع له من الهول‏.‏ قال‏:‏ وإذا هو قد خرج معه برجل ضرير البصر فقال‏:‏ هذا الضرير من أعاجيب الزمان في بديهة الشعرِ، فألقِ عليه أي بيت شئت يأت عليه ارتجالًا بما شئت من الشعر، ثم عهْدُه به أن يقوله فلا يبقى شيء منه في حفظه، فأتيتكم به لتشاهدوا من عجائب هذه البلاد ونوادرها وتذهبوا بخبر ذلك إلى بلادكم قال‏:‏ فاقترحوا مني بيتًا يقول عليه، فحضر في لساني بيت ابن الفارض‏:‏

سائقَ الأظعان يطوي البِيدَ *** مسرعًا عرِّج على كثبان طيْ

قال‏:‏ فذكرته فاندفع على هذا الروي مع صعوبته حتى أتى بنحو مائة بيت ارتجالًا‏.‏

قلت وهذا غريب، فإن هذا القدر كله يعز وقوعه من العرب المطبوعين فكيف بالمولدين‏؟‏ فكيف بآخر الزمان الذي غلبت فيه العجمة على الألسن‏؟‏ ولكن رب الأولين والآخرين واحد، تبارك الله أحسن الخالقين‏!‏ وحدثني أن الفقيه أبا العباس المذكور كان أيام مقامه بمصر قد اتخذ رجلًا عنده بنفقته وكسوته وما يحتاج على أن يكون كلما أصبح ذهب يقتري البلد أسواقًا ومساجد ورحابًا وأزقة، وكل ما رأى من أمر واقع أو سمع يُريحُه عليه بالليل فيقصه عليه‏.‏

قلت‏:‏ وهذا اعتناء الأخبار والنوادر والتواريخ‏.‏

وقد كان نحو هذا لشيخ مشايخنا أبي عبد الله محمد العربي ابن أبي المحاسن يوسف الفاسي، فكان من دأبه أنه متى لقي إنسانًا يسأله من أي بلد هو‏؟‏ فإذا أخبره قال‏:‏ من عندكم من أهل العلم‏؟‏ من عندكم من أهل الصلاح‏؟‏ ومن الأعيان‏؟‏ فإذا أخبره بشيء من ذلك كله سجله، وهذا الاعتناء بالأخبار والوقائع والمساند ضعيف جدًا في المغاربة، فغلب عليهم في باب العلم الاعتناء بالدراية دون الرواية، وفيما سوى ذلك لا همة لهم‏.‏

وكان أبو عبد الله المذكور يذكر في كتابه‏:‏ ‏"‏مرآة المحاسن‏"‏ أنه كم في المغرب من فاضل ضاع من قلة اعتنائهم، وهو كذلك‏.‏

وقد سألت شيخنا الأستاذ أبا عبد الله ابن ناصر رحمه الله ورضي عنه يومًا عن السند في بعض ما كنت آخذه عنه فقال لي‏:‏ إنا لم تكن لنا رواية في هذا، وما كنا نعتني بذلك‏.‏ قال‏:‏ وقد قضيت العجب من المشارقة واعتنائهم أمثال هذا حتى إني لما دخلت مصر كان كل من يأخذ عني عهد الشاذلية يكتب الورد والرواية والزمان والمكان الذي وقع فيه ذلك‏.‏

منافسة علماء مصر لأحمد المقري

رجعنا إلى الحديث الأول قال‏:‏ ووجدت الفقيه أبا العباس المذكور قد وقع بينه وبين طلبة العلم من أهل مصر شحناء عظيمة، وحدث أن سببها اتفاق غريب، وهو أنه حضر ذات يوم سوق الكتب وهو إذ ذاك لم يعرف، فوقع في يده سِفْرٌ من تفسير غريب، ففتح على ‏"‏تفسير‏"‏ سورة النور‏.‏ فإذا هو قد تعرض لمسألة فقهية غريبة، وذكر فيها اختلافًا وتفصيلًا وتحقيقًا، فحفظ ذلك كله على الفور، وكان رجلًا حافظًا، ثم اتفق عن قريب أن اجتمع علماء البلد في دعوة وحضر معهم، فلما استقر بهم المجلس إذا سائل في يده بطاقة يسأل عن تلك المسألة نفسها، فدفعت للأول من أكابر أهل المجلس، فنظر فكأنه لم يحضره فيها ما يقول، فدفعها لمن يليه، ثم دفعها الآخر للآخر وهكذا حتى بلغت أبا العباس المذكور، فلما تناولها استدعى الدواة فكتب عليها الجواب بنحو ما حفظ، فجعلوا ينظرون إليه متعجبين، فلما فرغ تعاطوها فقالوا‏:‏ من ذكر هذا‏؟‏ فقال لهم‏:‏ ذكره فلان في تفسير سورة النور، فالتمسوا التفسير فإذا الأمر كما ذكر، فدخلهم من ذلك ما هو شأن النفوس‏.‏

قلت‏:‏ وليس هذا ببدع، فما زال هذا الجنس يتحاملون على من توسموا فيه شفوفًا عنيهم، أو مزاحمة في رتبة أو حظ إلاّ من عصمه الله، وقليل مثلهم‏.‏

كضرائر الحسناء قلن لوجهها *** حسدًا وبغضًا أنه لدَميمُ‏.‏

وقد أفتى بعض الفقهاء أنه لا تقبل شهادة بعضهم على بعض لهذا المعنى، ولا شك أنه ‏"‏ليس‏"‏ على العموم، ولكنه شائع معلوم‏.‏

فمن ذلك ما وقع للإمام سيبويه مع أهل الكوفة، وقصته مشهورة‏.‏

وما وقع لسيف الدين الآمدي مع أهل مصر، فإنه لما برز عليهم في العلوم أنكروه ونسبوه إلى الأهواء، وكتبوا عليه رسمًا بذلك، فكانوا يدفعونه بعضهم لبعض ليوقعوا فيه الشهادة على ذلك، فكانوا يشهدون حتى انتهى إلى بعض من وفقه الله وعصمه فوقع تحت الشهادات‏.‏

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه *** فالقوم أعداء له وخصوم

وقد تناهى به ذلك حتى خرج من مصر‏.‏

وما وقع للفقيه محمد بن تومرت المعروف بالمهدي إمام الموحدين، فإنه دخل مدينة مراكش مَقْفَلَهُ من المشرق، فحرَّك العلوم العقلية، وكانوا أهل بادية لا يعرفون ذلك، فقالوا‏:‏ هذا أدخل علينا علوم الفلاسفة، ووَشوا به إلى اللمتوني حتى كان من أمره ما كان‏.‏

و‏"‏مثله‏"‏ ما وقع للإمام أبي الفضل بن النحوي حين دخل سجلماسة فجعل يدرس أصول الدين وأصول الفقه، فمر به عبد الله بن بسام أحد رؤساء البلد فقال‏:‏ ما العلم الذي يدرسه هذا‏؟‏ فأخبروه، وكانوا قد اقتصروا على علم الرأي فقال‏:‏ هذا يريد أن يدخل علينا علومًا لا نعرفها، وأمر بإخراجه، فقام أبو الفضل ثم قال ‏"‏له‏"‏‏:‏ أمَتَّ العلمَ أماتك الله ههنا، قالوا‏:‏ وكانت عادة أهل البلد أن يعقدوا الأنكحة في المسجد، فاستحضروا ابن بسام لعقد نكاح صبيحةَ اليوم الثاني من ذلك اليوم، فخرج سَحَرًا وقعد في المكان المذكور، فمرت عليه جماعة من ملوانة إحدى قبائل صنهاجة فقتلوه برماحهم، وارتحل أبو الفضل إلى مدينة فاس فتسلط عليه القاضي ابن دبوس ولقي منه ما لقي من ابن بسام، فدعا عليه أيضًا فهلك، ولما رجع إلى وطنه القلعة واشتغل بالتقشف تسلط عليه ابن عصمة أيضًا فقيه البلد بالإذاية‏.‏

وهذا النوع أعني الفقهاء ولا سيما أرباب المناصب منهم كالقضاة لم يزالوا متسلطين على أهل الدين كما وقع لهذا، وكما وقع للقاضي ابن الأسود مع الإمام العارف أبي العباس بن العريف ولابن ‏"‏أبي‏"‏ البراء مع القطب الجامع أبي الحسن الشاذلي وكلهم قد أخذهم الله بذنوبهم في الدنيا قبل الآخرة، نسأل الله تعالى العصمة من اتباع الهوى، ونعوذ بالله أن نظلم أو نظلم، إنه الحفيظ الرحيم‏.‏

وحدثني الحاج المذكور أيضًا قال‏:‏ دخلنا مكة شرفها الله فدخلت ذات يوم المسجد الحرام فإذا هو غاص بأهله والناس مزدحمون فقلت‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقالوا‏:‏ جنازة ولد توفي للشيخ يوسف الوفائي وكان حاضرًا في تلك الحجة، قال‏:‏ وكنت أعرفه، فجئت إليه لأعزيه في مصيبته، فاستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت عليه وهو مع أصحابه فإذا هو يتحدث وهو في غاية ما يكون من البسط والسرور، قال‏:‏ فجلست أمامه وقلت‏:‏ أعظم الله أجرك فأنكر علي غاية الإنكار وقال‏:‏ أمثلك يقول هذا‏؟‏ وقد طالما كنت أتمنى أن يجعل الله ‏"‏جسدي في هذه البقاع المشرفة، واليوم قد جعل الله‏"‏ بعضي فيها، فله الحمد وله الشكر، أو كلامًا هذا معناه رحمة لله ورضي عنه، ‏"‏و‏"‏ إنما أذكر مثل هذه القصة للاعتبار والائتساء‏.‏

وحدثنا أيضًا قال‏:‏ بتنا عند الفقيه الشيخ علي الأجهوري برسم زيارة، فبات ليله على النظر في كتب العلم، وهو يشرب الدخان، فكان له صاحب بعمر له الدواة حتى إذ فرغت عمر أخرى، ويرى حلَيَته‏.‏

قال‏:‏ وكان الشيخ إبراهيم اللقاني معاصره وبلديه يفتي بحرْمته‏.‏

لله الأمر من قبل ومن بعد‏.‏